فوائد من حديث النهي عن التبتل :عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : (( جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا ، كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ : آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))[1]
( إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ) فِيهِ إِشَارَة إِلَى رَدّ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَغْفُور لَهُ لا يَحْتَاج إِلَى مَزِيد فِي الْعِبَادَة بِخِلافِ غَيْره , فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ مَعَ كَوْنه يُبَالِغ فِي التَّشْدِيد فِي الْعِبَادَة أَخْشَى لِلَّهِ وَأَتْقَى مِنْ الَّذِينَ يُشَدِّدُونَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَنَّ الْمُشَدِّد لا يَأْمَن مِنْ الْمَلَل بِخِلافِ الْمُقْتَصِد فَأَنَّهُ أَمْكَنَ لاسْتِمْرَارِهِ وَخَيْر الْعَمَل مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبه , وَقَدْ أَرْشَد إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْله فِي الْحَدِيث الآخَر " الْمُنْبَتّ لا أَرْضًا قَطَعَ وَلا ظَهْرًا أَبْقَى "
قَوْله ( فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) الْمُرَاد بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَة لا الَّتِي تُقَابِل الْفَرْض , وَالرَّغْبَة عَنْ الشَّيْء الإِعْرَاض عَنْهُ إِلَى غَيْره , وَالْمُرَاد مَنْ تَرَكَ طَرِيقَتِي وَأَخَذَ بِطَرِيقَةِ غَيْرِي فَلَيْسَ مِنِّي , وَلَمَّحَ بِذَلِكَ إِلَى طَرِيق الرَّهْبَانِيَّة فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ اِبْتَدَعُوا التَّشْدِيد كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَقَدْ عَابَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَا وَفُّوهُ بِمَا اِلْتَزَمُوهُ
وَطَرِيقَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَنِيفِيَّة السَّمْحَة فَيُفْطِر لِيَتَقَوَّى عَلَى الصَّوْم وَيَنَام لِيَتَقَوَّى عَلَى الْقِيَام وَيَتَزَوَّج لِكَسْرِ الشَّهْوَة وَإِعْفَاف النَّفْس وَتَكْثِير النَّسْل .
وَقَوْله فَلَيْسَ مِنِّي إِنْ كَانَتْ الرَّغْبَة بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيل يُعْذَر صَاحِبه فِيهِ فَمَعْنَى " فَلَيْسَ مِنِّي " أَيْ عَلَى طَرِيقَتِي وَلا يَلْزَم أَنْ يَخْرُج عَنْ الْمِلَّة وَإِنْ كَانَ إِعْرَاضًا وَتَنَطُّعًا يُفْضِي إِلَى اِعْتِقَاد أَرْجَحِيَّة عَمَله فَمَعْنَى فَلَيْسَ مِنِّي لَيْسَ عَلَى مِلَّتِي لأَنَّ اِعْتِقَاد ذَلِكَ نَوْع مِنْ الْكُفْر .
وَفِي الْحَدِيث دَلالَة عَلَى فَضْلِ النِّكَاح وَالتَّرْغِيب فِيهِ .
وَفِيهِ تَتَبُّع أَحُول الأَكَابِر لِلتَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِمْ وَأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَته مِنْ الرِّجَال جَازَ اِسْتِكْشَافه مِنْ النِّسَاء .
وَأَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى عَمَل بِرّ وَاحْتَاجَ إِلَى إِظْهَاره حَيْثُ يَأْمَن الرِّيَاء لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَمْنُوعًا .
وَفِيهِ تَقْدِيم الْحَمْد وَالثَّنَاء عَلَى اللَّه عِنْد إِلْقَاء مَسَائِل الْعِلْم وَبَيَان الأَحْكَام لِلْمُكَلَّفِينَ وَإِزَالَة الشُّبْهَة عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ .
وَأَنَّ الْمُبَاحَات قَدْ تَنْقَلِب بِالْقَصْدِ إِلَى الْكَرَاهَة وَالاسْتِحْبَاب .
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : فِيهِ الرَّدّ عَلَى مَنْ مَنَعَ اِسْتِعْمَال الْحَلال مِنْ الأَطْعِمَة وَالْمَلابِس وَآثَرَ غَلِيظ الثِّيَاب وَخَشِن الْمَأْكَل .
قَالَ عِيَاض هَذَا مِمَّا اِخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَف فَمِنْهُمْ مَنْ نَحَا إِلَى مَا قَالَ الطَّبَرِيُّ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُمْ الدُّنْيَا )
قَالَ وَالْحَقّ أَنَّ هَذِهِ الآيَة فِي الْكُفَّار وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَمْرَيْنِ .
قُلْت : لا يَدُلّ ذَلِكَ لأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ إِنْ كَانَ الْمُرَاد الْمُدَاوَمَة عَلَى إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ , وَالْحَقّ أَنَّ مُلازَمَة اِسْتِعْمَال الطَّيِّبَات تُفْضِي إِلَى التَّرَفُّه وَالْبَطَر وَلا يَأْمَن مِنْ الْوُقُوع فِي الشُّبُهَات لأَنَّ مَنْ اِعْتَادَ ذَلِكَ قَدْ لا يَجِدهُ أَحْيَانًا فَلا يَسْتَطِيع الانْتِقَال عَنْهُ فَيَقَع فِي الْمَحْظُور كَمَا أَنَّ مَنْعَ تَنَاوُل ذَلِكَ أَحْيَانًا يُفْضِي إِلَى التَّنَطُّع الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَيَرُدّ عَلَيْهِ صَرِيح قَوْله تَعَالَى ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ )
كَمَا أَنَّ الأَخْذ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَة يُفْضِي إِلَى الْمَلَل الْقَاطِع لأَصْلِهَا وَمُلازَمَة الاقْتِصَار عَلَى الْفَرَائِض مَثَلاً .
وَتَرْك التَّنَفُّل يُفْضِي إِلَى إِيثَار الْبَطَالَة وَعَدَم النَّشَاط إِلَى الْعِبَادَة وَخَيْر الأُمُور الْوَسَط .
وَفِي قَوْله إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ مَعَ مَا اِنْضَمَّ إِلَيْهِ إِشَارَة إِلَى ذَلِكَ , وَفِيهِ أَيْضًا إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْعِلْم بِاللَّهِ وَمَعْرِفَة مَا يَجِب مِنْ حَقّه أَعْظَم قَدْرًا مِنْ مُجَرَّد الْعِبَادَة الْبَدَنِيَّة , وَاللَّهُ أَعْلَم .[2]
[1] رواه البخاري في النكاح باب الترغيب في النكاح (5063) .
[2] الفتح (9/8) .